
أنا بريء من «مصطفى موسى»!

محمد مصطفى موسى
10 فبراير 2018
اسمك قسمة ونصيب، كلون عينيك وبشرتك، وطول قامتك، وأمراضك الوراثية، وعائلتك التي تولد فيها، ووطنك، إلى آخر تلك الأشياء المقدّرة، التي تجد نفسك إزاءها مسيرًا لا مخيرًا.
صحيح أن القانون يتيح للإنسان تغيير اسمه، لكن القليلين يجرؤون على هذا القرار، الأمر يتطلب شجاعة استثنائية، فالاسم هو تعريف للمرء، ليس سهلًا الانسلاخ عنه... الاسم ليس قميصًا أو جوارب نبدلها متى ضجرنا منها.
في حياتي إجمالًا، طالما كنت راضيًا عن جميع ما قرره لي القدر، كملايين المصريين أحمد الله على القسمة والنصيب، باستثناء اسمي الذي كان في مرحلة ما منحة، ثم صار في مرحلة لاحقة محنة، حتى أصبح في هذه الأيام «لعنة».
محمد مصطفى محمد موسى، هذا هو الرباعي، يبدأ كل اسم بالميم، وهو من الأحرف العذبة صوتيًا، لو «استطعمته» أو «مزمزته»، وهو يخرج من حنجرة عبدالحليم، في «رسالة من تحت الماء»: فأنا لا أعرف فن العوم، وهو يزم شفتيه على الميم طويلًا، ستجد فيه شجنًا أليمًا وشهيًا، ولو ركزت في موسيقاه في قصيدة المتنبي العظيمة «وصف الحمى»: جرحتِ مجرّحًا لم يبقَ فيه مكانٌ للسيوفِ ولا السهامِ، ستلمس ذاقئتُك الجمالية وجع الشاعر، حيث يداهمه المرض في أرض مصر، غريبًا وبعيدًا عن الحروب والقتام، كما تعوّد أن يكون في الشام، أما إذا تسكعت في «جدارية» محمود درويش: واسمي، وإن أخطأت لَفْظَ اسمي، بخمسة أَحْرفٍ أُفُقيّةِ التكوين لي: ميمُ المُتَيَّمُ والمُيتَّمُ والمتمِّمُ ما مضى، فستبهرك الموسيقى الخارجية والداخلية معًا.
أكثر المرات التي كنت فيها ممتنًا لاسمي، تمثلت في مرة حضر فيها إلى مدرستي الابتدائية فريق طبي لإجراء تحليلات بول وبراز، والحقيقة أنني كنت وما زلت أعاني وساوس قهرية إزاء المراحيض العامة، لا أستطيع دخولها، كما أنني كنت طفلًا بالغ الخجل، حييّا إلى درجة التلعثم متى استشعرت حرجًا، ورغم التزامي الصارم بقواعد المدرسة «زوغت» من الفحص.
بعدها بأيام دلف كعاصفة مباغتة إلى الفصل مدير المدرسة، وكان رجلًا ضخمًا يشبه الراحل علي الشريف صوتًا ومظهرًا، فسحب بقبضته الغليظة تلميذًا آخر من قفاه، إلى المرحاض لإجراء التحليل، وكان المسكين قد أجراه أول مرة، ولم يقترف ذنبًا باستثناء أن اسمه كان محمد مصطفى محمد.
بعد ذلك بسنين، كان لي موعد آخر مع المنح المجانية التي حصلت عليها من هذا الاسم الشائع، و«المرطرط» كالليمون على الشجر، ففي السنة النهائية بقسم الإعلام في كلية الآداب بالإسكندرية، وجد رئيس القسم الدكتور محمد بيومي، أن طالبًا اسمه محمد مصطفى محمد، لم يحضر أية محاضرة طوال العام، غير أنه لم يدر أي محمد مصطفى هو ذاك، أنا أم طالب قروي من البحيرة، عاثر الحظ مثل زميلي بالابتدائية.
ولما أسقط بين يدي الرجل، استدعانا معًا، فقررت أن أتشبث بأني حضرت، واثقًا من أن الآخر سيفعل الأمر ذاته، ومع هذا الالتباس وجد الدكتور بيومي نفسه في «حيص بيص»، فلم يتخذ قرارًا بحرماني من الامتحانات، ولا حرمان زميلي، والغريب أنني تفوقت عليه في الدرجات النهائية!
على أن مزايا شيوع الاسم أصبحت عيوبًا ما إن التحقت بالعمل الصحفي، فالمعروف أن الأسماء الغريبة وربما المضحكة مثل «الكردوسي»، أو نسخته التقليد «الدندراوي الهواري»، تعطي حاملها شهرة، هذا بغض النظر عن محتوى ما يكتبه، وهو الأمر الذي لم تتحه لي قسمتي ونصيبي.
لو وقَّعت ما أكتب بـ«محمد مصطفى»، فهذا اسم متكرر شائع إلى درجة الرتابة، لو قلت «مصطفى موسى»، فأين أنا؟.. من حقي أن أُنادى باسمي الذي لم يفارقني لحظة، والذي أعتز به، حتى إنني كنت أرفض في طفولة غضة أسماء الدلع، مثل: حمادة وميدو وحمام أو حمو على الطريقة السكندرية في مسقط رأسي، المدينة العظيمة «ست الدنيا».
كم حسدت وقتها الراحل محمد الحيوان، الذي كان يكتب عموده «كلمة حب» بالصفحة الأخيرة في «الوفد»، كان اسمه يضحكني ومقالاته تعجبني.. خسارة أنني لست أملك لقبًا، وما أكثر الألقاب في مصر، منها: البغل والنتن والضبع والقرد والغول!
أيما يكون، وقع اختياري على محمد مصطفى موسى، لماذا لا يكون ثلاثيًا؟ لا أخترع اختراعًا، ولا أبتدع بدعة، هناك محمد حسنين هيكل، ومحمود عبدالمنعم مراد، وفي الأدب عبدالحميد جودة السحار.. كم يغتر المرءُ في بداياته الساذجة؟
اسم ليس مميزًا، لكن لا بأس به، وكونه اسمي، فهذا يُشبّع حاجة الأنا إلى تحقيق الذات، أو الزهو والتباهي، والحقيقة أنني لم أعانِ لزمن طويل أزمة جراء هذا الاختيار، بل إنني كنت أسعد حينما يناديني رؤساء التحرير ثلاثيًا، ضاغطين على الاسم الثالث في الترتيب، على سبيل المداعبة، كما أنه يساعدني كثيرًا حين أشرع في البحث عن مقال قديم عبر محرك البحث «جوجل»، حتى تجسدت الكارثة الكبرى، مع خروج اسم المرشح الرئاسي موسى مصطفى موسى فجأة، كعفريت من فانوس، فإذا بالاتصالات تنهار عليّ من أصدقاء يستوضحون ما إذا كان ذاك المرشح ينتمي إليّ أو أنتمي إليه، وقد أقسمت لهم ثلاثًا: أني برئ من هذا الـ«مصطفى موسى»، لا أعرفه ولم أعرفه، ولا أريد أن أعرفه، حتى بلغ التصاعد الدرامي ذروته، إذ اتصل بي صديق دراسة سوداني، من الخرطوم ليسألني السؤال ذاته، والمفارقة أن اسم ذاك الصديق: إبراهيم مصطفى موسى!